بأحد اروقه الزمن قبعت شمعة ظللها سوادها عن الأعين فلم يُر دخانها او
يبزغ عطر لهبها ..
جوار الجدار الحجري بقت الشمعه تراقب الغادين و الرائحين , احاط
بالجدار قصر حملت ابوابه لون العنب و اعمدته نقش لشياطين , اقمار , دوائر و زهور
منمنمه ..
احبت انطفاء الوان الثياب الملكية لكنها لم تستسغ زركشتها , احبت
رائحه الخبز بالأفران لكن الاقدام التي حملته كانت حافية , تجمعت حلقات الضاحكين و
علت اصواتهم , مزامير الامراء كللت الحشد فكانت البسمات بحساب و الحركات يطوقها
دخان الحرص ..
اصطف الفرسان جوار الملوك لا هذا مغادر ولا هذا منتبه , حفل قدم جنه
الازدهار حيث كل شئ ممكن و المستتر مسموح , جنه الحرير و شذا اقنعه مذهبه , ما
جحيم هذه الجنه ؟ تساءلت الشمعة لكن الإجابه غابت خلف الشراشف البيضاء و اللؤلؤ
حول الأعناق ..
حين انتصف الليل تلاشي الحشد , ساد الصمت القاعات و عوضاً عن البشر
الراقصين سكنت لوحات زيتيه فوق الجدران , الأرض الملونه اصبحت خاويه بارده و
الستائر الشفافه حملتها الرياح فطفت عاجزه عن البقاء بموضعها او الإنفلات بعيداً
..
انتهت دقات منتصف الليل فسُمع همس بالقاعات , اتي حشد آخر فذابت
اللوحات امام نوافذ زجاجية تداخلت بها الوان الكون و السماء , ظلت الجدران حول
الزجاج حجرية لكنها تشبعت بنسيم خفي , ابتسم النسيم حين مر المجتمعين مسربلين
برداء موحد , بساطته بساطه المقاعد البندقيه الرابضه فوق رخام الأرض الرمادي , و
فخامته فخامه الملائكه متعانقه الأصابع بالسقف ..
بالقاعه اُنشدت تراتيل وارت بسمتها دمعة شوق , لم يكن الشوق رهن الأرض
بل كان منحوتاً وسط الهائمين بالأعلي حيث السقف و الحلم بالسمو ..
حكت التراتيل عن جنه مفقوده ماؤها سلام و سماؤها فضه قمرية , احتضنت
الجنه كل ثمره اضاعها البرد , كل شذا مفقود وجد بها مأوي ..
لم تفصح التراتيل عن مكان الجنه , و حين تساءلت الشمعة ظلت الإجابه
بين ملائكه السقف و خواء الجدران , قريبه لكنها سابحه بعيداً بعد الأسرار ..
حين بزغ الفجر رحل رهبان القاعه و تلاشت التراتيل , لم يبقي سوي خشب
تشبع بالقِدم , تماثيل رخامية الأعين و ضربات قلب منفلته تناقلتها الأطياف النائمه
جوار الجدران ..
اعتاد القمر منح القاعه ازرق الليل و الوان الزجاج لكن التراب حل محل
القمر و التراب عنوان الرحيل ..
ثم اشرقت الشمس , تساقطت الحجاره فلم يبق سوي ساحه احاطت بها اعمده
ملساء , بالمنتصف نهضت شجرة جذرها قديم قدم الزمن , اخاديدها اخاديد بسمات العجائز
, حولها حُفر حوض ابيض سُمع به خرير ماء قطر فيه ندي الصباح الصافي ..
ثم اتي القوم حاملين كنوزهم , نادوا أن هلموا فقد جلبنا لكم جنه
الأسواق , جنه الحياة و ثمارها , اجتمع الناس بين مشتري و مجادل , ركض الأطفال و
تنازع الرجال , حملت امرأه الفطائر إلي منزلها و خرجت طفله من بيتها تنشد للياسمين
حديث التفتح بسلتها أن هل من مشتري ؟
جلس البعض حول جدول الماء و استظل آخرين بالشجرة , كان للصباح رائحة
العشب , الماء , الحلوي الساخنه, و دخان الزهور , لونه ازرق كالبحر , مشرق كالتوت ,
واعد كالتفاح وغائم كخمار العذراوات ..
كانت جنه الأنفاس , الضحكات و الوعود , جنه ما يخرج من باطن الأرض و
ما يسير فوقها لذا تسائلت الشمعة أتظل الجنه بعد المغيب ؟ , تشاغل القوم فلم يجيب
مجيب عن السؤال ..
حين إقترب الغروب حمل كل متاعه و رحل , خوت الساحه و عصفت بها الرياح
منذره بإقتراب الليل , اُنيرت المنازل بالجوار , ووُلد بها نشيد المساء امام نار
المدفأه , عشاء و فراش , احضان دافئه و قبلات مختلسه , لا يملكون الكثير لكن السقف
كان الغني و الهمسات المشتركه كانت الوطن ..
حملت بداية الليل جنه الإنتماء , راقبتها الشمعة لكنها لم تزرها , لم
تنهض أو تبحث بل جوار الجدار ظلت ما قبل انتصاف الليل ..
سيأتي قوم آخرين و سيحملون جنه اخري , لم تعد الشمعه تتساءل من أين
تأتي جنتهم و إلي أين تغيب , لم تعد تبحث عم تراه لأنها رأت ما كانت تبحث عنه منذ
البدايه ..
بأحد اروقه الزمن قبعت شمعة
ظللها سوادها عن الأعين فلم يُر دخانها او يبزغ عطر لهبها , من حولها شُيدت الجنان
, سبحت الحياه باحثه عن مرسي , كل آتي ورحل , حمل احلامه و مضي , و هنا هي بقت .
بأحد أروقه الزمان جوار جدارها الأسود , بقت الشمعة وراقبت جنتهم , لا
احد يراها او ينتظر منها خبو أو اشتعال ..
بقت عالمه أن لا جنه تحمل لها الإنتماء و كل الجنان لها وطن ..
فهي وحدها هنا , خارج حدود الازمان و قيد المكان ..